مودريتش لا يشيخ: حين يصبح الشغف أقوى من الزمن


في زمنٍ باتت فيه كرة القدم تُقاس بالأرقام، والعمر يُعامل كعقبة لا تُغتفر، يخرج لوكا مودريتش، أحد أعظم لاعبي الوسط في تاريخ اللعبة، ليقولها ببساطة: “هذا سبب استمراريتي”. جملة قصيرة، لكنها تختصر فلسفة حياة، وتفتح بابًا واسعًا للتأمل في مسيرة لاعب تحدى الزمن، وتجاوز كل التوقعات، ليبقى في قلب ريال مدريد، وفي قلب كل من يعشق كرة القدم النقية.
مودريتش، الذي بلغ عامه الأربعين، لا يزال يركض، يمرر، يراوغ، ويقود وسط الميرينغي كما لو كان في ريعان شبابه. فما السر؟ وما الذي يجعل هذا اللاعب قادرًا على الاستمرار بهذا المستوى؟ في هذا المقال، نغوص في أعماق تجربة مودريتش، ونفكك أسباب استمراريته من زوايا فنية، نفسية، ثقافية، وإنسانية.
الشغف أولًا: كرة القدم كهوية لا مهنة
حين سُئل مودريتش عن سبب استمراره، أجاب: “لأنني أحب كرة القدم”. هذه الإجابة، رغم بساطتها، تحمل جوهر كل شيء. مودريتش لا يلعب من أجل المال، ولا من أجل الأرقام، بل من أجل اللحظة، من أجل التمريرة الدقيقة، من أجل السيطرة على نسق المباراة، ومن أجل الشعور الذي لا يُوصف حين تلامس الكرة قدميه.
هذا النوع من الحب لا يُصنع، بل يُولد مع اللاعب، ويكبر معه، ويتحول إلى جزء من هويته. مودريتش لا يعرف نفسه خارج الملعب، ولا يرى في الاعتزال نهاية، بل يرى فيه انقطاعًا عن شيء يشبه التنفس.
الجسد الذي لا يشيخ: علم، انضباط، ووعي
من الناحية البدنية، فإن استمرار مودريتش في الملاعب بهذا المستوى يُعد إنجازًا علميًا بحد ذاته. اللاعب يتبع نظامًا غذائيًا صارمًا، ويخضع لبرامج تدريبية مخصصة للحفاظ على لياقته، كما أنه يمتلك وعيًا عاليًا بجسده، يعرف متى يضغط ومتى يهدأ، متى يركض ومتى يمرر.
المدربون يشيدون بقدرته على اللعب 90 دقيقة دون أن يفقد تركيزه أو دقته، رغم أن معظم اللاعبين في سنه يكونون قد اعتزلوا أو انتقلوا إلى دوريات أقل تنافسية. إنه لاعب يعرف كيف يحافظ على نفسه، وكيف يطيل عمره الفني دون أن يفقد جوهره.
العقلية الاحترافية: الصمت الذي يتكلم
مودريتش يُعد نموذجًا للاعب المحترف، ليس فقط في التدريبات، بل في كل تفاصيل حياته. لا يتأخر، لا يثير الجدل، لا يتحدث كثيرًا، لكنه يعمل بصمت ويُثبت نفسه في كل مباراة. هذه العقلية جعلته محبوبًا من المدربين، الزملاء، والجماهير، وساعدته على البقاء في أعلى مستوى رغم تغير الأجيال داخل ريال مدريد.
هو لاعب لا يحتاج إلى ضجيج، بل يكفيه أن يلمس الكرة ليُثبت أنه لا يزال هنا، لا يزال قادرًا، لا يزال مهمًا.
الدور القيادي: حكيم غرفة الملابس
رغم أنه لم يكن يومًا القائد الرسمي للفريق، إلا أن مودريتش يُعتبر قائدًا فعليًا داخل غرفة الملابس. خبرته، هدوؤه، وقدرته على احتواء اللاعبين الشباب، جعلت منه عنصرًا لا غنى عنه في بناء التوازن داخل الفريق.
اللاعبون الجدد ينظرون إليه كنموذج يُحتذى، والمدربون يعتمدون عليه في نقل التعليمات وتثبيت الهوية التكتيكية داخل الملعب. إنه الحكيم الذي لا يصرخ، لكنه يُسمع.
التكيف التكتيكي: لاعب لكل العصور
من أبرز أسباب استمرار مودريتش هو قدرته على التكيف. في بداية مسيرته، كان لاعبًا هجوميًا، ثم تحول إلى محور ارتكاز، ثم إلى صانع ألعاب متأخر. هذا التنوع جعله مفيدًا في كل خطة، وكل رسم تكتيكي.
في ريال مدريد، لعب تحت قيادة مدربين مختلفين: أنشيلوتي، زيدان، لوبيتيغي، سولاري، وكلهم وجدوا فيه عنصرًا يمكن توظيفه حسب الحاجة، دون أن يفقد بريقه. إنه لاعب لا ينتمي إلى خطة، بل إلى فكرة.
العلاقة مع ريال مدريد: أكثر من عقد
مودريتش لا يرى ريال مدريد كنادٍ فقط، بل كبيتٍ ثانٍ. منذ انتقاله من توتنهام في 2012، ارتبط بالنادي عاطفيًا، ورفض عروضًا مغرية من أندية أخرى، فقط ليبقى في “البيت الأبيض”.
الجماهير تبادله الحب، والإدارة تحترمه، والمدربون يثقون به. هذه العلاقة المتبادلة خلقت بيئة مثالية للاستمرار، وجعلت من فكرة الرحيل أمرًا غير وارد. إنه لاعب ينتمي إلى القميص، لا إلى السوق.
الطموح الذي لا ينتهي: لا حدود للحلم
رغم فوزه بدوري الأبطال خمس مرات، وكأس العالم للأندية، والكرة الذهبية، فإن مودريتش لا يزال يملك طموحًا. يريد الفوز مجددًا، يريد أن يثبت أن العمر مجرد رقم، وأن الجودة لا تتأثر بالسن.
هذا الطموح يدفعه للتدريب يوميًا، وللقتال في كل مباراة، وكأنه لاعب ناشئ يسعى لإثبات نفسه. إنه لاعب لا يعرف الاكتفاء، ولا يعترف بالنهايات.
التأثير الثقافي: من لاجئ إلى أسطورة
مودريتش يُمثل أكثر من مجرد لاعب كرة قدم، إنه رمز للجيل الذي عاش الحرب، وتحدى الظروف، ووصل إلى القمة. قصته من طفل لاجئ في كرواتيا إلى نجم عالمي تُلهم الملايين، وتُظهر أن الإرادة يمكنها أن تصنع المعجزات.
استمراره في الملاعب يُعد رسالة لكل من يعتقد أن الظروف تحكم المصير، ولكل من يرى أن النجاح له عمر محدد. إنه لاعب يُعيد تعريف النجاح، ويمنحه بعدًا إنسانيًا.
أنشيلوتي ومودريتش: الثقة المتبادلة
كارلو أنشيلوتي، مدرب ريال مدريد، يُعد من أبرز الداعمين لمودريتش. يراه عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه، ويمنحه دقائق مهمة في المباريات الكبرى. العلاقة بينهما تقوم على الاحترام والثقة، ما يعزز من رغبة مودريتش في الاستمرار.
أنشيلوتي يعرف كيف يوظف مودريتش دون أن يُرهقه، ويمنحه دورًا تكتيكيًا يناسب قدراته الحالية، ما يطيل من عمره الفني. إنه مدرب يعرف قيمة اللاعب، ويمنحه المساحة ليكون نفسه.
الجماهير: الحب الذي لا ينضب
جماهير ريال مدريد ترى في مودريتش أحد رموز العصر الذهبي، وتمنحه دعمًا غير محدود. في كل مباراة، يُستقبل بالتصفيق، وتُرفع له اللافتات، ويُغنى باسمه.
هذا الحب يُعد دافعًا نفسيًا قويًا، ويمنح اللاعب طاقة إضافية للاستمرار، حتى في أصعب اللحظات. إنه لاعب يعيش من أجل الجماهير، ويقاتل من أجلهم.
خاتمة: مودريتش.. حين يصبح الزمن مجرد تفصيل
استمرار لوكا مودريتش في الملاعب حتى عام 2025 وما بعده ليس صدفة، بل نتيجة لمزيج نادر من الشغف، الاحتراف، الذكاء، والولاء. إنه لاعب يُعيد تعريف مفهوم العمر في كرة القدم، ويُثبت أن الجودة لا تتقادم.
في كل تمريرة، في كل لمسة، في كل لحظة داخل الملعب، يكتب مودريتش فصلًا جديدًا في رواية لا تنتهي، رواية بطل لا يعرف الاستسلام، ولا يعترف بالنهايات.




