**كيليان مبابي: بين غياب الكرة الذهبية وحضور القرار… لماذا اختار أن يُغيّب نفسه؟**


لم يكن غياب كيليان مبابي عن حفل توزيع جوائز “الكرة الذهبية” 2023 مجرّد قرار عفوي أو موقف عابر، بل كان رسالة مُحكمة، مُدروسة، ومعبّرة عن حالة داخلية وخارجية يعيشها أحد أبرز نجوم كرة القدم في العالم اليوم. ففي وقت كان الجميع يتوقّع ظهوره – حتى لو لم يكن مرشحًا للفوز – اختار اللاعب الفرنسي أن يُغيّب جسده، لكنه لم يُغيّب صوته. فما الذي دفعه إلى هذا القرار؟ وما الذي يُخفيه هذا الغياب؟—### **الغياب كرسالة… لا كخيار**منذ الإعلان عن قائمة المرشحين للكرة الذهبية، كان اسم مبابي حاضرًا، وإن لم يكن في صدارة الترشيحات كما كان يُتوقع. ومع ذلك، فإن حضوره في الحفل كان مُتوقعًا من الناحية البروتوكولية والرمزية، خصوصًا أنه لا يزال أحد اللاعبين الأكثر تأثيرًا في الملاعب الأوروبية. لكن مبابي اختار أن يُرسل رسالة مختلفة: “أنا لست هنا من أجل الجوائز، بل من أجل كرة القدم”.في تصريحات لاحقة، كشف مبابي أنه لم يُدعَ رسميًا إلى الحفل، وهو ما أثار جدلًا واسعًا. لكن الأهم من ذلك هو موقفه الشخصي: “لم أشعر أن وجودي ضروري هناك”. هذه العبارة تحمل في طيّاتها أكثر من معنى؛ فهي تُشير إلى شعور بالتهميش، أو ربما رفض للعبة الإعلام والجوائز التي لم تعد تعني له الكثير بعد أن خاض معارك كبرى مع باريس سان جيرمان ومنتخب فرنسا، ولم يحصل على التقدير الذي كان يطمح إليه.—### **الكرة الذهبية… بين المعيار والسياسة**لا يمكن فهم موقف مبابي دون الغوص في أزمة الكرة الذهبية نفسها. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الجائزة محطّ جدل بسبب معايير التقييم غير الواضحة، وتداخل العوامل السياسية والإعلامية في اختيار الفائز. ففي 2022، على سبيل المثال، فاز كريم بنزيما بالجائزة بعد موسم استثنائي مع ريال مدريد، لكن مبابي – رغم أدائه المذهل في كأس العالم (8 أهداف، ووصافة مع فرنسا) – لم يحصل حتى على المركز الثاني.هذا العام، ومع تتويج ليونيل ميسي للمرة الثامنة، بدا أن مبابي خارج دائرة الضوء تمامًا. وهو ما جعله يُعيد حساباته: لماذا أذهب إلى حفل لا أُقدّر فيه؟ لماذا أكون جزءًا من نظام لا يُنصفني؟مبابي، في هذا السياق، لم يرفض الحفل فقط، بل رفض فكرة أن يكون “ضيف شرف” في عرض لا يُقدّمه كمنافس حقيقي. إنه يرفض أن يُختزل في “المرشح الصاعد” أو “الوريث”، وهو الذي يرى نفسه اليوم في قمة الهرم الكروي العالمي.—### **التركيز على الملعب… لا على الجوائز**في أكثر من مناسبة، كرّر مبابي أن هدفه الأول هو الفوز بالألقاب الجماعية، وليس الفردية. وهو ما يفسّر تركيزه المطلق على موسمه مع باريس سان جيرمان، ثم مع ريال مدريد لاحقًا. فاللاعب الذي يُعدّ لمرحلة جديدة في مسيرته – مرحلة ما بعد باريس – لا يريد أن يشتت نفسه بالتفاصيل الجانبية.غيابه عن الحفل كان أيضًا رسالة لجماهيره: “ثقوا بي، أنا أعمل بصمت، ولن أسمح لأي حدث خارجي أن يُبعثر تركيزي”. وهو ما يعكس نضجًا نادرًا في لاعب لم يتجاوز الـ25 من عمره بعد.—### **العلاقة المتوترة مع الصحافة والإعلام**لا يمكن تجاهل البُعد الإعلامي في قرار مبابي. فعلاقته مع الصحافة الفرنسية والعالمية تشهد تقلبات مستمرة. وفي ظل الحملات الإعلامية التي تستهدفه – سواء بسبب موقفه من باريس سان جيرمان، أو بسبب تأخّر انتقاله إلى ريال مدريد – اختار أن يُقلّص من ظهوره الإعلامي، وأن يُوجّه طاقته نحو الملعب فقط.غيابه عن الكرة الذهبية كان جزءًا من هذه الاستراتيجية: “لن أكون جزءًا من سيرك إعلامي لا يهتم إلا بالخلافات والتصنيفات”. وهو بذلك يُعيد تعريف مفهوم النجومية في عصر السوشيال ميديا، حيث يُمكن للنجم أن يختار متى يظهر، وأين، ولماذا.—### **رسالة إلى ريال مدريد… وإلى العالم**بعيدًا عن التحليلات النفسية والإعلامية، هناك من يرى أن غياب مبابي كان رسالة موجهة إلى ريال مدريد. ففي وقت يُفاوض فيه النادي الملكي لإتمام صفقة انتقاله الصيف المقبل، أراد مبابي أن يُظهر أنه لاعب جاد، لا يلهيه البريق أو الجوائز، بل يركز على الأداء والإنجازات. وهو بذلك يُعزّز صورته كلاعب محترف يضع المصلحة الرياضية فوق كل اعتبار.كما أن غيابه كان رسالة إلى العالم: “أنا لا أحتاج إلى جائزة لأثبت أنني الأفضل”. فمبابي، رغم عدم فوزه بالكرة الذهبية حتى الآن، يُعتبر في نظر الملايين الأفضل في العالم. فماذا تُضيف له الجائزة سوى رقمًا في سجلّه؟—### **ماذا لو حضر؟**تخيل لو أن مبابي حضر الحفل… لربما وُضع في زاوية غير مريحة، أو سُئل عن أسباب عدم فوزه، أو عن علاقته بزملائه المرشحين. لربما وُضع في موقف دفاعي، وهو لا يحب أن يكون كذلك. فغيابه كان درعًا واقيًا، ووسيلة للحفاظ على هيبته النفسية والمهنية.كما أن حضوره كان سيُعطي الحفل زخمًا إعلاميًا أكبر، وهو ما لم يكن مبابي يريد أن يمنحه للمنظمين، خصوصًا بعد أن شعر – كما صرّح – أن دعوته لم تكن أولوية.—### **مبابي… النجم الذي يصنع أسطورته بعيدًا عن الجوائز**تاريخ كرة القدم مليء باللاعبين العظماء الذين لم يفوزوا بالكرة الذهبية، لكنهم صنعوا أمجادهم بأقدامهم، لا بتصويت الصحفيين. يوهان كرويف، جورج ويا، باولو مالديني، ومؤخرًا روبرت ليفاندوفسكي… كلهم أسماء كبيرة لم تحصل على الجائزة، لكن أحدًا لا يشكّ في عظمتهم.مبابي يسير على هذا الدرب. فهو لا ينتظر شهادة من أحد ليُثبت قيمته. هو يُثبتها كل أسبوع على أرض الملعب. وغيابه عن الكرة الذهبية ليس هروبًا، بل هو موقف. موقف من نظام لا يُنصفه، ومن واقع لا يُعجبه، ومن لعبة لا يريد أن يكون جزءًا منها إلا بشروطه هو.—### **الخلاصة: الغياب حضور… والصمت صرخة**في النهاية، غياب كيليان مبابي عن حفل الكرة الذهبية لم يكن مجرد قرار شخصي عابر، بل كان حدثًا كرويًا وإعلاميًا بحد ذاته. لقد حوّل غيابه إلى حضور، وصمتَه إلى صرخة، واختياره إلى رسالة.رسالة مفادها: “أنا لست هنا لأكون ضمن القائمة، بل لأكون القائمة نفسها”.ورسالة أخرى: “قيمتكم لا تُقاس بجوائزكم، بل بأهدافي وإنجازاتي”.وربما الأهم: “لن أكون نجمًا تُديرونه كما تريدون، بل نجمًا يصنع مصيره بيديه”.كيليان مبابي لم يغب عن الكرة الذهبية… بل جعل الكرة الذهبية تغيب عنه. وهو بذلك يُعيد تعريف معنى النجاح، ويُذكّر العالم أن الأسطورة لا تُصنع على السجادة الحمراء، بل على العشب الأخضر.




