ديشان يفتح خزائن الذاكرة لتحصين فرنسا من لعنة السقوط


في لحظة بدا فيها منتخب فرنسا وكأنه يسير بثقة نحو المجد، خرج ديدييه ديشان عن صمته المعتاد، ليحذر لاعبيه من فخٍ يعرفه جيدًا، فخٌ لا يُرى في التحليلات التكتيكية ولا يُقاس بالأرقام، بل يسكن في ذاكرة من عاشوا مرارة السقوط بعد أن كانوا على مشارف القمة. ديشان، الذي رفع كأس العالم لاعبًا ومدربًا، لا يتحدث عن المجد بل عن الأشباح التي تطارده منذ سنوات، ويخشى أن تلتهم حلم فرنسا من جديد.
ذاكرة الجراح: حين سقط الكبار
في عام 2002، دخل منتخب فرنسا كأس العالم حاملاً اللقب، ومسلحًا بكتيبة من النجوم يتقدمهم زيدان وهنري وتريزيغيه، لكنهم خرجوا من الدور الأول دون تسجيل أي هدف. كان ديشان حينها خارج التشكيلة، لكنه عاش تلك الكارثة كقائد سابق، وشاهد كيف يمكن للغرور أن يقتل الطموح، وكيف أن المجد لا يمنح حصانة من الانهيار.
اليوم، وهو يقود جيلًا جديدًا من النجوم، يتقدمهم كيليان مبابي وأنطوان غريزمان، لا يريد لتلك الذكرى أن تتكرر. في تصريحاته الأخيرة، لم يكن يحذر من المنافسين بقدر ما كان يحذر من النفس، من التراخي، من الإيمان الزائف بأن التاريخ سيكتب نفسه دون جهد.
بين المجد والهاوية: خط رفيع لا يُرى
ديشان يدرك أن منتخب فرنسا يعيش واحدة من أغنى فتراته من حيث المواهب، لكن هذا الغنى قد يتحول إلى عبء إذا لم يُدار بحكمة. في حديثه قبل مواجهة أوكرانيا بتصفيات كأس العالم 2026، قال: “الوضع ليس مثاليًا لجميع اللاعبين، وهذا طبيعي في هذه المرحلة من الموسم، لكن هناك أيضًا جودة المنافسين، على المستوى الجماعي والإبداع. هذا الفريق الأوكراني مثير للاهتمام وخطر جدًا، لذلك يجب أن نكون حذرين”.
هذا التصريح، رغم بساطته، يحمل في طياته فلسفة ديشان في الإدارة: لا شيء مضمون، ولا أحد فوق الخطر. حتى في مواجهة خصم أقل شهرة، يجب أن تُعامل المباراة وكأنها نهائي، لأن الاستهانة هي أول خطوة نحو السقوط.
مبابي: القائد الذي لا يُثقل كاهله المجد
من بين كل الأسماء التي يراهن عليها ديشان، يبرز اسم كيليان مبابي، ليس فقط كنجم هجومي، بل كقائد جديد للمنتخب. ديشان قال عنه: “الأمر لا يُثقل كاهله، يمتلك كل الإمكانات لذلك. مرّ بفترة لم يكن فيها بالكفاءة ذاتها لأسباب مختلفة”.
لكن القيادة ليست مجرد شارة على الذراع، بل مسؤولية نفسية وثقافية. مبابي، الذي غادر باريس سان جيرمان نحو مغامرة جديدة، يعيش تحولًا نفسيًا، كما وصفه ديشان، وهذا التحول قد يكون مفتاحًا لفهم كيف سيقود فرنسا في المرحلة المقبلة. هل سيكون قائدًا ملهمًا أم نجمًا منعزلًا؟ ديشان يراهن على الأول، لكنه لا يغفل عن الثاني.
التحذير من الداخل: عندما يصبح التاريخ عبئًا
التحذير الذي أطلقه ديشان لا يتعلق فقط بالمباريات المقبلة، بل هو دعوة للتأمل في التاريخ. فرنسا، رغم ألقابها، عاشت لحظات انهيار مفاجئة، من مونديال 2002 إلى يورو 2008، وحتى نهائي يورو 2016 الذي خسرته على أرضها أمام البرتغال. هذه اللحظات، رغم قسوتها، تشكل جزءًا من هوية المنتخب، ويجب أن تُدرس لا أن تُنسى.
ديشان، الذي لا يلوم المدافعين على الأخطاء كما قال في تصريح سابق، يعرف أن المشكلة ليست في الأفراد بل في المنظومة النفسية. حين يشعر اللاعبون أن الفوز مضمون، تبدأ المنظومة في الانهيار. لذلك، فإن تحذيره ليس تكتيكيًا بل فلسفيًا: لا تنسوا أنكم بشر، وأن المجد لا يُعاد تلقائيًا.
أوكرانيا: الخصم الذي يعكس الخطر
في مواجهة أوكرانيا، لم يتحدث ديشان عن نقاط ضعف الخصم، بل عن قوته. قال إن الفريق الأوكراني “خطر جدًا”، وهذا الوصف ليس مجاملة بل رسالة للاعبيه: لا تنظروا إلى التصنيف العالمي، بل إلى الواقع. أوكرانيا، التي تعيش ظروفًا سياسية صعبة، تلعب بروح وطنية عالية، وهذا النوع من الفرق لا يُستهان به.
ديشان يعرف أن مثل هذه المباريات هي التي تصنع الفرق بين منتخب بطل ومنتخب واعد. الفوز فيها لا يُقاس بالنقاط فقط، بل بالقدرة على احترام الخصم، وعلى تجاوز الغرور، وعلى اللعب بتركيز كامل حتى الدقيقة الأخيرة.
بين التحذير والتحفيز: ديشان كقائد نفسي
ما يميز ديشان ليس فقط قدرته على اختيار التشكيلة المثالية، بل على بناء عقلية جماعية. في تصريحاته، لا يهاجم ولا يمدح بشكل مفرط، بل يوازن بين التحذير والتحفيز. يقول للاعبين: أنتم الأفضل، لكن الأفضلية لا تكفي. يجب أن تثبتوا ذلك كل يوم، وكل مباراة، وكل لحظة.
هذه العقلية، التي تبدو صارمة، هي ما جعلت فرنسا تتجاوز خيبة يورو 2016 وتفوز بكأس العالم 2018. وهي نفسها التي يريد ديشان أن يزرعها من جديد، لأن البطولات لا تُحسم بالأسماء بل بالعقول.
ديشان والانتقادات: درع من التجربة
رغم إنجازاته، لا يسلم ديشان من الانتقادات، خاصة بعد العروض المتذبذبة في بعض الفترات. لكنه لا يتهرب، بل يعترف باستعداده لها، كما قال في تصريح سابق. هذا الاستعداد ليس ضعفًا بل قوة، لأنه يعني أنه لا يعيش في فقاعة، بل يواجه الواقع كما هو.
الانتقادات، بالنسبة له، جزء من اللعبة، لكنه لا يسمح لها بأن تؤثر على قراراته. يعرف أن الجماهير تريد الفوز دائمًا، لكنه يعرف أيضًا أن البناء الحقيقي يحتاج إلى صبر، وإلى رؤية تتجاوز النتائج اللحظية.
خلاصة: ديشان لا يحذر من الخصوم… بل من النفس
في النهاية، فإن تحذير ديشان ليس مجرد تصريح صحفي، بل هو بيان فلسفي. يقول فيه للاعبيه: لا تخافوا من أوكرانيا، بل خافوا من أنفسكم إذا استسلمتم للغرور. البطولة لا تُحسم في غرفة الملابس، بل على أرض الملعب، وفي كل لحظة يُختبر فيها التركيز والروح والانضباط.
ديشان لا يريد أن يرى فرنسا تسقط كما سقطت في 2002، ولا أن تعيش خيبة جديدة كما في 2016. يريد أن يبني منتخبًا لا يخاف من الأشباح، بل يواجهها، ويحولها إلى دروس، ويصنع منها درعًا يحميه من لعنة السقوط.
في زمنٍ تتغير فيه كرة القدم بسرعة، يبقى ديشان ثابتًا في فلسفته: البطولة تبدأ من العقل، وتنتهي في القلب. وبينهما، يجب أن يسير اللاعبون على خطٍ رفيع، لا يُرى، لكنه يحدد الفرق بين المجد والهاوية.




