حين يصبح الخطأ درسًا: جاتوزو يحمي دوناروما من قسوة التاريخ


في كرة القدم، لا تُقاس اللحظات فقط بالأهداف والانتصارات، بل أيضًا بالأخطاء التي تترك أثرًا لا يُمحى. وبينما يتسابق الجميع لتسجيل الأرقام، هناك من يُحاكم على لحظة واحدة، قد تكون عثرة عابرة، لكنها تكشف الكثير. هذا تمامًا ما حدث مع جيانلويجي دوناروما، حارس منتخب إيطاليا، بعد خطئه الفادح أمام إستونيا في تصفيات كأس العالم 2026، حين سقطت الكرة من بين يديه وسجل الخصم هدفًا شرفيًا. لكن المدرب جينارو جاتوزو اختار أن يقف في وجه العاصفة، مدافعًا عن لاعبه، ومحذرًا من قسوة التاريخ.
مشهد الخطأ.. حين يتكلم الصمت
في الدقيقة 83 من مباراة إيطاليا ضد إستونيا، وبينما كانت النتيجة تشير إلى تقدم الآزوري بثلاثة أهداف مقابل لا شيء، ارتكب دوناروما خطأً غير معتاد. كرة عرضية سهلة سقطت من بين يديه، لتجد طريقها إلى الشباك. هدف لم يغير شيئًا في النتيجة، لكنه أثار عاصفة من الانتقادات، خاصة من الإعلام والجماهير التي لا ترحم.
اللقطة انتشرت بسرعة، وتحولت إلى مادة دسمة للسخرية والتحليل. البعض وصفها بـ”الفضيحة”، وآخرون اعتبروها مؤشرًا على تراجع مستوى الحارس الذي كان يُنظر إليه كخليفة بوفون.
جاتوزو.. مدرب لا ينسى أنه كان لاعبًا
لكن وسط هذا الضجيج، خرج جاتوزو بتصريح مختلف. قال بعد المباراة: “الأهم هو خلق الفرص، وليس الوقوف عند خطأ فردي في مباراة محسومة”. وأضاف: “دوناروما يبقى أحد أفضل الحراس في العالم، والخطأ جزء من اللعبة، لا يمكن أن نُحاكمه على لقطة واحدة”.
هذا التصريح لم يكن مجرد دفاع عن لاعب، بل موقف إنساني من مدرب يعرف جيدًا معنى الضغط، لأنه عاشه كلاعب. جاتوزو، الذي اشتهر بشراسته في الملعب، يملك جانبًا عاطفيًا عميقًا، ويحرص دائمًا على حماية لاعبيه من القسوة الإعلامية.
دوناروما.. من باريس إلى الأزوري
منذ انتقاله إلى باريس سان جيرمان، عاش دوناروما فصولًا متقلبة. تألق في بعض المباريات، وارتكب أخطاء في أخرى، خاصة في دوري الأبطال. ورغم ذلك، ظل الخيار الأول في منتخب إيطاليا، نظرًا لموهبته الفريدة، وتجربته الدولية.
لكن الضغوط في باريس تختلف عن تلك في ميلان، حيث نشأ. الجماهير الفرنسية أقل صبرًا، والإعلام أكثر قسوة. وهذا ما جعل كل خطأ يرتكبه يتحول إلى عنوان رئيسي، حتى لو كان في مباراة ودية.
الحارس في مرمى النقد.. لماذا يُحاسب أكثر من غيره؟
في كرة القدم، يُنظر إلى الحارس على أنه آخر خط دفاع، وصاحب المسؤولية الأكبر. خطأه لا يُغفر، لأنه غالبًا ما يؤدي إلى هدف. لكن هذا المنطق، رغم واقعيته، يفتقر إلى الإنصاف. فالحارس، مثل أي لاعب، معرض للخطأ، ويحتاج إلى دعم لا إلى جلد.
دوناروما، الذي لا يزال في منتصف العشرينات، يملك سجلًا دوليًا مميزًا، وتُوج بيورو 2020 كأفضل لاعب في البطولة. لكن ذاكرة الجماهير قصيرة، وغالبًا ما تُختزل المسيرة في لحظة واحدة.
جاتوزو يحذر من التاريخ.. ماذا قصد؟
في تصريحاته بعد المباراة، قال جاتوزو: “التاريخ لا يرحم من ينسى أن كرة القدم لعبة أخطاء”. هذه الجملة تحمل أكثر من معنى. فهي تذكير بأن النجوم الكبار ارتكبوا أخطاء، لكنهم تجاوزوها. وهي أيضًا تحذير من أن التركيز على الخطأ قد يُدمّر اللاعب نفسيًا، ويؤثر على مستقبله.
جاتوزو يعرف أن دوناروما لا يحتاج إلى لوم، بل إلى احتواء. لأن الحارس الذي يشعر بالخوف من الخطأ، يفقد جرأته، ويتحول إلى لاعب متردد، وهذا أخطر من أي هدف يُسجل عليه.
الإعلام الإيطالي.. بين النقد والدعم
الصحف الإيطالية انقسمت في تقييمها للحادثة. بعضها ركز على الخطأ، واعتبره مؤشرًا على تراجع التركيز، خاصة أن المباراة كانت محسومة. بينما دافعت صحف أخرى عن الحارس، مشيدة بموقف جاتوزو، ومعتبرة أن الخطأ لا يُلغي الأداء الجيد في باقي دقائق المباراة.
هذا الانقسام يعكس حالة الإعلام الرياضي في إيطاليا، الذي يتأرجح بين العاطفة والتحليل، ويُضخم الأحداث أحيانًا، لكنه أيضًا يعرف كيف يُعيد التوازن حين تهدأ العاصفة.
الجماهير.. ذاكرة لا تعرف النسيان
على منصات التواصل، كانت ردود الفعل أكثر حدة. مقاطع الفيديو انتشرت بسرعة، والتعليقات تراوحت بين السخرية والغضب. البعض طالب بإبعاد دوناروما عن التشكيلة، وآخرون استدعوا أخطاء سابقة له في باريس، وكأنهم يُعدّون ملفًا لإدانته.
لكن وسط هذا الضجيج، ظهرت أصوات عقلانية، تُذكّر بأن الحارس هو إنسان قبل أن يكون لاعبًا، وأن الدعم في اللحظات الصعبة هو ما يصنع الفرق.
ماذا بعد؟ مستقبل دوناروما في الأزوري
رغم الخطأ، لا يبدو أن جاتوزو ينوي استبعاد دوناروما من التشكيلة. بل على العكس، قد يمنحه فرصة جديدة في المباراة المقبلة ضد إسرائيل، ليؤكد ثقته فيه، ويمنحه فرصة للرد في الملعب.
هذا القرار يحمل رسالة واضحة: أن الخطأ لا يعني النهاية، وأن الثقة لا تُبنى على مباراة واحدة. وإذا نجح دوناروما في تقديم أداء قوي، فسيكون قد رد على الجميع، دون أن يتكلم.
كرة القدم.. لعبة الذاكرة الانتقائية
في النهاية، تبقى كرة القدم لعبة ذاكرة انتقائية. الجماهير تتذكر الأهداف، وتنسى التمريرات. تتذكر الأخطاء، وتغفل عن التصديات. لكن المدربين الكبار، مثل جاتوزو، يعرفون أن بناء فريق قوي لا يكون فقط بالنجوم، بل بالثقة، وبالقدرة على احتواء اللحظات الصعبة.
دوناروما أخطأ، نعم. لكنه أيضًا تصدى لكرات كثيرة، وقاد منتخب بلاده في لحظات حاسمة. وإذا كان التاريخ لا يرحم، فإن الحاضر يمنح فرصة للتصحيح. وجاتوزو، بتصريحاته، لم يدافع فقط عن لاعب، بل عن فكرة: أن كرة القدم لا تُلعب بالخوف، بل بالشجاعة.




